الرئيس عون في احتفال اليوبيل الـ125 لمدرسة القلب الأقدس- فرير الجمّيزة
أدعو الله أن تبقى هذه المدرسة كَلِمَةَ حياة ورِسالةَ رجاء
لبّى فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون دعوة أخوة المدارس المسيحيّة في الشرق الأوسط للمشاركة في افتتاح اليوبيل الـ125 لمدرسة القلب الأقدس (المعروفة بفرير الجميزة) التي رَعَتهُ تلميذًا نجيبًا نَهَلَ من مَعينها العلم والثقافة والقيم، وذلك مساء الجمعة الواقع فيه 18 كانون الأوّل.
وقد وصل فخامته إلى حرم المدرسة الساعة السادسة والنصف، فكان في استقباله عند المدخل الرئيسُ الإقليميُّ لِرهبنة أخوة المدارس المسيحيّة في الشرق الأوسط الأخ الزائر فادي صفير، ومديرُ المدرسة الأستاذ سليم جريج، ولفيفٌ من الأخوة ومسؤولي المدرسة. ثمّ زار فخامة الرئيس أحد الصفوف التي تعلّم فيها، فالتقى وجوهًا عزيزة على قلبه منذ عهد الدراسة، مستعيدًا لحظات ومحطّات مضيئة من الزمن الغابر. بعدئذ، انتقل الرئيس بمرافقة الأخوة والمدير الى كنيسة المدرسة التي احتضنت الاحتفال بالمناسبة، بحضور الوزيرين ميشال فرعون وبيار ابي عاصي، والنواب: نعمة طعمة، الياس بو صعب، سيمون ابي رميا، نقولا صحناوي، عماد واكيم، انطوان بانو، نديم الجميل، جان طالوزيان، وبعض الأساقفة، وممثل السفير البابوي المونسنيور ايفان سانتوس، وعدد من رجال الدين وكبار الموظفين، وذوي التلامذة، وإداريي المدرسة، وخرّيجيها، ومعلّميها.
برنامج الاحتفال في كنيسة المدرسة
كلمة الأخ الزائر الإقليمي
فور دخول الرئيس عون علا التصفيق أرجاء الكنيسة، وانطلق برنامج الاحتفال بكلمة ترحيبيّة تلاها عريف الحفل الأخ لويس مجلّي، قبل أن تقدّم جوقة المدرسة بقيادة السيّدة نسرين الحسني ومرافقة موسيقى الجيش اللبناني، باقة متنوّعة لتراتيل وترانيم ميلاديّة بلغات مختلفة. بعدئذ، ألقى الأخ الزائر كلمة باللغة الفرنسيّة في ما يلي ترجمتها:
"اسمحوا لي أن أعبّر أمامكم اليوم عن بهجتي العارمة في هذه الكنيسة المَهيبة، في مدرسة القلب الأقدس، التي تعاقبت عليها أجيال في خلال مئة وخمسة وعشرين عامًا. أرحّب بكم في هذا اللقاء، الذي يُتيح لي فرصة مخاطبتكم في مرحلة حَرِجَة يجتازها الوطن، وتتلاعب بها أصوات متنافرة تعمل على ضياع القيم وفقدان الوطن بشكل تامّ.
فخامة الرئيس، في خضمّ هذه الفوضى، بقيَت مدارس الإخوة اللساليين وفيّة لتاريخها، وقد حرصت دومًا على اختيار مواصلة مهمّتها في التعليم والتربية إلى جانب الشباب بخاصّة الضعفاء، مع تأكيد احترام كرامة المربّين وحقوقهم دومًا.
فخامة الرئيس،
جميلٌ أن يُكرّس المرء حياته لِعهدٍ، وهُنا ميزة الرجال العظماء! أولئك وحدهم همُ القادرون على البقاء أوفياء لِوعدٍ وَقَفُوا عليه جُلّ حياتهم وطاقاتهم. لقد نذرتم عشرات السنين من حياتكم لخدمة بلدنا العزيز، قائدًا لجيشنا. ومنذ ثلاثة أعوام، انصبّت حياتكم كلّها على حماية الدستور، والدفاع عن مصالح الشعب اللبناني وصون أراضيه.
واعلم يا فخامة الرئيس، أن زيارتكم تشرّفنا وتثير فينا فخرًا مزدوجًا: فنحن فخورون باستقبال شخصيّة وضَعَتْ مصالحَ شعبها فوق كلّ اعتبار، وفخورون أيضًا بكم ـــ بعد الرئيسين الراحلين كميل شمعون والياس سركيس ــ تلميذًا لسّاليًّا ثالثًا يتبوّأ المنصب الأرفع في الدولة، أطال الله عمركم وحفظكم من أيّ مكروه.
إنّ مؤسّسات إخوة المدارس المسيحيّة تحتفل هذا العام باليوبيل المزدوج: مرور 125 عامًا على تأسيس معهد القلب الأقدس الذي رآك تكبر، ومرور ثلاثماية عام على وفاة مؤسّسنا القديس يوحنّا دو لسّال. إنّ حضوركم اليوم بيننا، في هذه المناسبة، يشهد على انتمائكم إلى العائلة اللساليّة الجامعة، وعلى وفائكم للقيم اللسّاليّة، ويشدّ على أيدينا في رسالة التربية، إذ أظهرتم التزامكم بها من خلال سنّ القانون الذي أنصف المعلّمين. ونؤكّد لكم أنّنا لهذا القانون الشهود الأُمناء.
فخامة الرئيس،
يشرّفنا أن نرحّب بكم في هذه المدرسة التي نَمَّت في صِباكم قِيَم الأخوّة والإيمان والخدمة. ونحن في غاية الامتنان لإيلائكم هذه المؤسّسة الوفاء والتقدير. أهلًا وسهلًا بكم."
كلمة المطران سيزار اسيان
بعد كلمة الأخ صفير، ارتفعت الصلوات، وتلا المطران شارل مراد الإنجيل المقدّس، ورفع مسؤولو الأقسام في المدرسة بعض النوايا، ليمَنَحَ بعد ذلك أسقف اللاتين في لبنان سيزار اسيان البركة الختاميّة قائلًا:
"عام 1223 عندما سُئِل القدّيس فرنسوا الأسيزي عن سبب وضعه مغارة الميلاد، أجاب بأنّه يرغب في أن يُعاين بعينيه، حالة الفقر والتواضع التي ولد فيها ابن الله. وعندما نتأمّل في المغارة الفقيرة والمتواضعة، من الجيّد أن نتذكّر في هذا الوقت أنّ الربّ أراد أن يولد ابنه فقيرًا ككثير من الناس في هذا العالم. ولكنّه لم يُرِد إذلال ابنه، وأن يولد مهمّشًا، إنّما ضمن عائلة. إنّ الرسالة التي علينا ان نتلقّفها من إنجيل اليوم، هي العائلة التي قدّمها لنا الله، مؤلّفة من القدّيسينِ مريم ويوسف اللذين اتبعا طريقًا طويلًا للبرّ والتقوى، قبل أن يَقبَلا ما أعدّه الله لهما.
منذ أكثر من 300 سنة، تخلّى رهبان شبّان عن كلّ شيء، وقرّروا تكريس أنفسهم للربّ، على غرار القديس جان باتيست دو لاسال، لخدمة الأطفال. وقد اكتشفوا أهميّة ولادة أيّ طفل ضمن عائلة، وبنوا علاقة أوّليّة مع الربّ مُعطي الحياة، قبل أن يهتمّوا بالأولاد المهمّشين الذين لا عائلة لهم، وقرّروا أن يكونوا على مثال القديس يوسف، عائلة لكلّ طفل من هؤلاء.
لقد أَتَيتُم منذ 125سنة، وأنشأتم مدرسة القلب الأقدس، وكنتم العائلة لآلاف الأولاد دون تمييز، وأعطيتم الطفل والفقير والمهمّش المكانة الأولى. هو الذي كان يحتاج الى عائلة كي ينمو ويواجه تحدّيات هذا العالم، فيصبح إنسانًا فَخورًا باهتمام الرهبان به وبتذكيره أنّه أوَّلًا ابن الله. كما رافقتُم في خلال هذه السنين، لبنان منذ الحكم العثماني مرورًا بالحرب العالميّة الأولى والانتداب الفرنسي و"لبنان الكبير" والحرب العالمية الثانية والحرب اللبنانية. وذكّرتمونا جميعًا بأنّنا إن نحبّ لبنان، فعلينا أن نكون جميعًا عائلة كبيرة تحتضن كلّ مواطن على هذه الأرض. علّمتمونا ألا نفرّق بين شخص وآخر، وأنّ لبنان لا يُبنى إلّا وفق اللقب الذي أُعْطيتَهُ يا فخامة الرئيس "بيّ الكلّ". نحن اليوم، نضع بين يديك الوزنة التي أعطانا الربُّ إيّاها، وأن نكون شعبًا واحدًا لأبٍ واحد يذكّرنا أنّ الحياة مقدّسة، وأنّ دعوتنا هي أن نبذل ذواتنا على غرار مار يوسف ويسوع المسيح على الصليب، كي نصل ببلدنا الى أن يكون وطن الرسالة الذي لا يطمح إليه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني والكنيسة فحسب، بل العالم أجمع.
لقد أوصاكم القدّيس دو لاسال بالتمثّل بالقديس يوسف. فكُلّ ولد بين أيديكم هو يسوع المسيح، وكلّ حياة هي مدعوّة إلى الخلاص والقداسة. لذلك نرفع صلاتنا إلى كلّ منكم وكلّ من بَذَل جهدًا منذ 125 سنة حتّى اليوم، كي تكملوا رسالتكم السامية. كما نُصلّي من أجل الوطن كي يبقى الحاضن الأوسع للجميع".
كلمة مدير المدرسة
وبعد ذلك كانت كلمة المدير الأستاذ سليم جريج، قال فيها:
اليوم سأقصّ عليكم " قصّة أمّ " يُخبِرُ عنها كلُّ أمّ أولادَها منذ ثلاثماية عامٍ. أمّ نذرت نفسها للتربية والتعليم، للخدمة والرسالة، للحقّ والعدالة. أمّ هي بدورها بنتُ رهبنةٍ كبيرةٍ بدأت بنشر عرف طيبها، لمّا قرّر المؤسس القديس جان باتيست دو لاسال افتتاح المدارس لتعليم الأولاد من دون تمييزٍ في الطبقة الاجتماعيّة، فأوجد بذلك المدرسة التي تلبّي حاجة مجتمعها.
هذه الرهبنة المنتشرة في ثمانين بلدًا ونيّفٍ في أقطار المسكونة، ما تزال أمينةً على مبادئ مؤسّسها وقوانينه.
مدرسة القلب الأقدس، هذه الابنة الأمينة، شرعت منذ تأسيسها بتربية الشبيبة البيروتيّة واللبنانيّة على مبادئ الأخوّة والإيمان والخدمة. زرعت فيهم حبّ الحقّ والعدالة، فسَعَوا مع من سعى إلى تحرير لبنان من نير العثمانيّين، ولو بثمن المشانق الباهظ. كما شهدت ولادة لبنان الكبير وتطوُّره مع بزوغ فجر الاستقلال ليصبح الجمهوريّة اللبنانيّة الغالية، فكان أبناء مدرسة فرير الجمّيزة طليعة البنّائين. منهم من تولّى سُدّة الرئاسة ككميل شمعون والياس سركيس، واليوم رئيسنا الّذي نفتخر به العماد ميشال عون رجل الساعة والمرحلة. فشكرًا لكِ مدرسةَ القلب الأقدس على رجالات الدولة في الميادين كافّة، وعلى روّاد الحركة الاقتصاديّة، الثقافيّة، والإنمائيّة.
أيّتها الأمُّ، إن اجتمعنا اليوم، فلكي نقوم بفعل عرفانٍ بالجميل تجاه أمّ رَعَت، ولا تزال ترعى صغارها: تُكبّرُهم وتُطلِقهم نسورًا للحياة، فيعودون إلى أدراجها التي رَفَعَتهم، يؤدّون لها تحيّة العرفان بالجميل والاحترام. وإنّ معرضَنا الذي أقيم في هذه المناسبة لأبهى دليلٍ على ذلك. فما مرَّ رئيسٌ أو قائد في لبنان، إلّا وزار هذا الصرح العريق منطلقًا منه للخدمة وللتألُّق.
فخامة الرئيس،
شكرًا لأنّك بما أنت عليه، قائدٌ فارس، أبٌ حامٍ، راعٍ ومُعلّم. علّمتنا وستبقى تعلّمنا أنّ المواقف تبني الأوطان، وأنّ الإنسان غاية الخدمة الأسمى. أنت القدوة لنا وللأجيال الصّاعدة، مثالٌ يُحتذى، عِصاميّ، ابن الشعب وضميره. نحن نفتخر بك، وما التفاتَـتُـك اليوم تجاه الأمّ، تجاه مدرسة القلب الأقدس – فرير الجمّيزة، تجاه مدرستك إلّا أسطع برهانٍ على أصالة معدنك، وصلابة تربيتك، وبُعدِ رؤيتك .
كنت ولا تزال وستبقى أنموذجًا يُقتدى. فأهلًا بك في بيتك ــ مدرستك في القلب الأقدس."
كلمة الرئيس عون
ثم ألقى الرئيس عون كلمة جاء فيها:" إنّ هذه المناسبة مهمّة بالنسبة إلى كلّ إنسان وكلّ مسيحيّ، فيسوع المسيح الذي وُلد في مغارة، علّمنا أن نكون متواضعين. واليوم، تفرح العائلات كما الأولاد، ليس فقط بولادة المسيح، بل بكونه مخلّصًا، ولأنّه اتّبع سيرة خلاصيّة منذ ولادته حتى قيامته من بين الأموات. وعلينا جميعًا أن نتّبع السيرة نفسها كي نكون مسيحيّين أصيلين. أتمنّى لكم ميلادًا مجيدًا وسنة سعيدة".
السجل الذهبيّ
وفي ختام الحفل، تسلّم الرئيس عون من القيّمين على الرهبنة والمدرسة درعًا تذكاريّة تمثّل الأرزة اللبنانيّة. ثمّ انتقل الجميع إلى قاعة الاستقبال في مبنى الإدارة، حيث تمّ قطع قالب الحلوى. ودوّن الرئيس في السجلّ الذهبيّ الكلمة التالية:
"هنا على مقاعد مدرسة القلب الأقدس، حيث نشأت وتلقّيت علومي، بعضٌ من حنين، والكثيرُ من طيب الذكريات المتجلّية بالقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، وبِوجوهٍ غابَتْ، وأخرى لا تزال في الحضور.
الليلة، إذ أشارك رهبنة أخوة المدارس المسيحيّة في الشرق الأوسط فرحة الاحتفال باليوبيل الـ125 لهذا الصرح التربويّ، أرفعُ الدعاء أن يبقى، بأبنائه ومدرّسيه وإدارييه وعائلاته، كلمة حياة ورسالة رجاء، تَهَبانِ لبنانَ جيلًا بعد جيل ديمومة في ضياء المعرفة وصدق البذل، اللذين لأجلهما لكم جميعًا فائق التقدير."
ثمّ جال رئيس الجمهورية والحضور في المعرض الذي يضمّ صورًا قديمة من الأرشيف، تشهد على تاريخ حافل بأمجاد المدرسة منذ تأسيسها حتّى يومنا هذا.